رسـالة فـي علـم الحديـث
[b]الرواية
والإسناد[/b]
ما الإسناد؟ .. وما المتن؟
تقرأ الحديث الشريف فيطالعك أو ما يطالعك "السند" وهو:
سلسلة الرواة الذين نقل عنهم هذا الحديث من لدن رسول الله إلى أن انتهى إلى أحد
الحفاظ المشهورين كمالك أو البخاري أو مسلم رضي الله
عنهم.
والإسناد : رفع الحديث إلى
قائله.
وقال ابن جماعة : المحدثون يستعملون السند والإسناد لشيء
واحد .
وأما المتن : فهو ألفاظ الحديث نفسها
.
ومعرفة السند هي الأساس عند المحدثين في الحكم على درجة
الحديث إذ إن عماد الصحة أو الضعف عندهم درجة الرازي من الصدق ، ودرجة روايته من
الوضوح والثقة .
ولهذا كانت عنايتهم بالأسانيد عظيمة ، نشأ عنها علم مصطلح
الحديث بلواحقه من علم الرجال والأنساب والكنى والأسماء والجرح والتعديل
.
الإسناد من خصائص الأمة
الإسلامية:
ولم يؤثر عن أمة من الأمم العناية برواة أخبارها وكتبها ،
ومأثورات أنبيائها كما عرف ذلك عن هذه الأمة الإسلامية التي عنيت بهذه الناحية أتم
العناية ، حتى إن اهتمامها بالأسانيد والرواة لم يقف عند حد العلوم الشرعية ، بل
تعداها إلى العلوم الأدبية والأخبار التاريخية وغيرها ، وإن كان في الحديث النبوي
وما إليه أدق وأوضح .
قال أبوعلي الجياني : (خص
الله تعالى هذه الأمة بثلاثة أشياء لم يعطها من قبلها : الإسناد ، والأنساب ،
والإعراب).
وقال ابن حزم :
(نقل الثقة عن الثقة يبلغ
به النبي "صلى الله عليه وسلم" مع الاتصال خص الله به المسلمين دون سائر الملل ،
وأما مع الإرسال والإعضال فيوجد في كثير من اليهود ، ولكن لا يقربون فيه من موسى
قربنا من محمد "صلى الله عليه وسلم" ، بل يقفون بحيث يكون بينهم وبين موسى أكثر من
ثلاثين عصرا .. ولا يمكن أن يبلغوا إلى صاحب نبي ولا إلى تابع
له).
وقد أثر عن السلف في الحث على العناية بالإسناد أقوال
كثيرة :
قال ابن المبارك. : (الإسناد من الدين ، لولا الإسناد لقال من شاء ما
يشاء).
وقال سفيان بن عيينة : (حدّث الزهري يوما بحديث فقلت : هاته بلا إسناد ، فقال
الزهري : أترقى السطح بلا سلم ؟).
وقال الثوري : (الإسناد
سلاح المؤمن).
وقال أحمد بن حنبل : (طلب
الإسناد العالي سنة عن السلف ؟ لأن أصحاب عبد الله كانوا يرحلون من الكوفة إلى
المدينة فيتعلمون من عمر ويسمعون منه).
وقال محمد بن أسلم الطوسي : (قرب الإسناد قرب أو قربة إلى الله
تعالى).
وقال محمد بن سيرين : (إن
هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم) .. وقال: (لم يكونوا يسألون عن الإسناد ، فلما وقعت الفتنة قالوا سموا
لنا رجالكم ، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم ، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ
حديثهم).
وحكى الأوزاعي عن سليمان بن موسى قال: (لقيت طاووسا فقلت: حدثني فلان كيت وكيت قال : إن كان صاحبك
" ...." فخذ عنه) .
أنواع التحمل
ودرجاته:
وكما كانوا يتحرون حال الراوي كانوا يعنون كذلك بالطريقة
التي تلقى بها عن شيخه .
وطرق التلقي تختلف في الأسلوب وفى الرتبة . ومنها
:
1 - السماع من لفظ الشيخ إملاء من حفظه ، أو تحديثا من
كتابه .
2 - قراءة الطالب على الشيخ
.
3 - سماع الطالب على الشيخ بقراءة
غيره.
4 - المناولة مع الإجازة كأن يدفع له الشيخ أصل سماعه ،
أو فرعا مقابلا به ويقول له: أجزت لك روايته عنى .
5 - الإجازة المجردة عن المناولة ، ولها أنواع كثيرة
مفصلة في كتب الفن.
6 - المناولة من غير إجازة بأن يناوله الكتاب مقتصرا على
قوله هذا سماع ولا يقول اروه عني ، ولا أجزت لك
روايته.
قيل: تجوز الرواية بهذه المناولة .. والصحيح عندهم عدم
الجواز .
ومثلها:
7 - الإعلام: كأن يقول: هذا الكتاب من مسموعاتي من غير أن
يأذن له في روايته عنه.
8 - الوصية: كأن يوصى بكتاب عند سفره أو موته .. والأرجح
عدم جواز الرواية به .
9 - الوجادة : كأن يجد حديثا أو كتابا بخط شيخ معروف لا
يرويه الواحد عنه بسماع ولا إجازة فله أن يقول : وجدت أو قرأت بخط فلان.
وفى مسند الإمام أحمد كثير من ذلك من رواية ابنه
عنه.
قال النووي: (وأما بالوجادة
فعن المعظم أنه لا يجوز وقطع البعض بوجوب العمل بها عند حصول الثقة..) قال :
(وهذا هو الصحيح الذي لا يتجه في هذه الأزمان
غيره).
أقدم إجازتين مأثورتين
:
ا - إجازة أبي خيثمة لزكريا بن يحيى
:
جاء في شرح ألفية العراقي نقلا عن الإمام أبي الحسن محمد
بن أبي الحسين بن الوزان قال : (ألفيت بخط أبي بكر أحمد بن أبي خيثمة زهير بن حرب
الحافظ الشهير صاحب يحيى بن معين وصاحب التاريخ ما مثاله: "قد أجزت لأبى زكريا يحيى بن مسلمة أن يروي عنى ما أحب من
كتاب التاريخ الذي سمعه مني أبو محمد القاسم بن الأصبح ومحمد بن عبد الأعلى كما
سمعاه منى ، وأذنت له في ذلك ولمن أحب من أصحابه ، فإن أحب أن تكون الإجازة لأحد
بعد هذا فأنا أجزت له ذلك بكتابي هذا" وكتب أحمد بن خيثمة بيده في شوال سنة
ست وسبعين ومائتين).
2
- إجازة حفيد بن شيبة للخلال
وكذلك أجاز حفيد يعقوب بن شيبة وهذه نسختها فيما حكاه
الخطيب: يقول محمد بن أحمد بن يعقوب بن شيبة : (قد
أجزت لعمر بن أحمد الخلال وابنه عبد الرحمن بن عمر ولختنه على بن الحسن جميع ما
فاته من حديثي مما لم يدرك سماعه من المسند وغيره ، وقد أجزت ذلك لمن أحب عمر ،
فليرووه عنى إن شاءوا. وكتبت لهم ذلك بخطى في صفر سنة اثنتين وثلاثين
وثلاثمائة).
دقة التحري وسعة معرفة أئمة الفن بأحوال
الرواة:
وإن ما أثر عن أئمة رواية الحديث في دقة تحريهم عن أقوال
الرواة وسعة معرفتهم بكل ما يتصل بهم من شئون خاصة أو عامة لمما يقضي منه
العجب.
ولقد كانوا يتحرجون من الرواية حتى عن الثقات لتوهم
الشبهة في بعض تصرفاتهم المتصلة بالرواية.
ولا تثبت صفة التقدم والحفظ لأحد من رجال الحديث حتى يكون
قد حفظ متن الحديث وألفاظه وسنده حفظا تاما ، ثم ألم بمعرفة رجاله وأحوالهم فردا
فردا ، ثم أضاف إلى ذلك العلم بطرق روايته المختلفة .
وهذا الإمام مسلم بن الحجاج يحدثنا في مقدمة صحيحه عن شيء
من هذا فيقول شارحا منهاجه في الرواية :
(ثم إنا إن شاء الله
مبتدئون في تخرج ما سألت وتأليفه على شريطة سوف أذكرها لك وهو
:
أنا نعمد إلى جملة ما أسند من الأخبار
عن رسول الله "صلىالله عليه وسلم", فنقسمها على ثلاثة أقسام وثلاث طبقات من الناس ,
فأما القسم الأول : فإنا نتوخى أن نقدم الأخبار التي هي أسلم من العيوب من غيرها ،
وأنقى من أن يكون ناقلوها أهل استقامة في الحديث وإتقان لما نقلوا
.
فإذا نحن تقصينا أخبار هذا
الصنف من الناس أتبعناها أخبارا يقع في أسانيدها بعض من ليس بالموصوف بالحفظ
والإتقان كالصنف المقدم قبلهم ، على أنهم وإن كانوا فيما وصفنا دونهم فإن اسم الستر
والصدق وتعاطى العلم يشملهم: كعطاء بن السائب ، ويزيد بن أبي زياد ، وليث بن أبي
سليم وأضرابهم من حمال الآثار ونقال الأخبار. فهم وإن كانوا بما وصفنا من العلم
والستر عند أهل العلم معروفين ، فغيرهم من أقرانهم ممن عندهم ما ذكرنا من الإتقان
والاستقامة في الرواية يفضلونهم في الحال والمرتبة ، لأن هذا عند أهل العلم درجة
رفيعة ، وخصلة سنيه , ألا ترى أنك إذا وازنت هؤلاء الثلاثة الذين سميناهم : عطاء ،
ويزيد ، وليثا بمنصور بن المعتمر ، وسليمان الأعمش ، وإسماعيل بن أبى خالد في إتقان
الحديث والاستقامة فيه وجدتهم مباينين لهم لا يدانونهم ، لا شك عند أهل العلم
بالحديث في ذلك للذي استفاض عندهم من صحة حفظ
منصور والأعمش وإسماعيل وإتقانهم لحديثهم ، وأنهم لم يعرفوا مثل ذلك من عطاء ويزيد
وليث.
وفي مثل مجرى هؤلاء إذا وازنت بين
الأقران كابن عون ، وأيوب السختياني مع عوف بن أبي جميلة وأشعث الحراني وهما صاحبا
الحسن وابن سيرين ، كما أن ابن عون وأيوب صاحباهما إلا أن البون بينهما وبين هذين
بعيد في كمال الفضل , وصحة النقل , وإن كان عوف وأشعث غير مدفوعين عن صدق وأمانة
عند أهل العلم..
فعلى نحو ما ذكرنا من الوجوه نؤلف ما سألت من الأخبار عن رسول الله "صلى
الله عليه سلم".
فأما ما كان منها عن قوم هم عند أهل الحديث متهمون أو عند الأكثر منهم ،
فلسنا نتشاغل بتخريج حديثهم كعبد الله بن مسور أبي جعفر المدائني ، وعمرو بن خالد ،
وعبد القدوس الشامي ، ومحمد بن سعيد المصلوب ، وغياث بن إبراهيم ، وسليمان بن عمرو
أبي داود النخعي ، وأشباههم ممن اتهم بوضع الأحاديث ، وتوليد الأخبار , وكذلك من
الغالب على حديثه المنكر أو الغلط ، أمسكنا أيضا عن حديثهم).
ـ ومن أمثلة التورع في الرواية حتى عن الثقات ما رواه مسلم بعد ذلك عن
أبي الزناد عن أبيه قال: (أدركت بالمدينة مائة كلهم
مأمون ما يؤخذ عنهم الحديث ، يقال : ليس من أهله).
وإذا رجعت إلى كتب الرجال والعلل والجرح
والتعديل أدهشك ما ترى من ذلك .
جودة الحفظ وسرعته ودقته وكثرته
:
ولقد اشتهر الكثير من أئمة الحديث بسرعة
الحفظ وجودته ، ودقته وكثرته حتى كانوا أعاجيب الدنيا في هذه
المعاني.
ومنهم أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري الذي روي عنة في ذلك
الغرائب المدهشة منذ كان غلاما حتى لقي ربه.
ولقد حدث عن نفسه فيما رواه الفريري
:
(قال: ألهمت حفظ الحديث وأنا في الكتاب".
قلت : وكم أتى عليك إذ ذاك؟.
فقال : عشر سنين أو أقل , ثم خرجت من الكتاب فجعلت أختلف إلى الداخلي
وغيره فقال يوما فيما كان يقرأ للناس: سفيان عن أبى الزبير عن إبراهيم . فقلت: إن
أبا الزبير لم يرو عن إبراهيم.. فانتهرني .
فقلت له: ارجع إلى الأصل إن كان عندك .
فدخل فنظر فيه ثم رجع فقال: كيف هو يا غلام ؟
فقلت : هو الزبير وهو ابن عدى عن إبراهيم.
فأخذ القلم وأصلح كتابه وقال لي: صدقت.
فقال له إنسان : ابن كم حين رددت عليه؟
فقال : ابن إحدى عشرة سنة.
قال : فلما طعنت في ست عشرة سنة حفظت كتب ابن المبارك ووكيع . وعرفت
كلام هؤلاء ـ يعنى أصحاب الرأي).
وقال حامد بن إسماعيل وآخر: (كان البخاري
يختلف معنا إلى السماع وهو غلام ، فلا يكتب ، حتى أتى على ذلك أيام فكنا نقول له.
فقال : إنكما قد أكثرتما علي فاعرضا علي ما كتبتما ، فأخرجنا إليه ما كان عندنا ،
فزاد على خمسة عشرة ألف حديث ، فقرأها كلها عن ظهر قلب حتى جعلنا نحكم كتبنا من
حفظه. ثم قال : أترون أني أختلف هدرا وأضيع أيامي؟ فعرفنا أنه لا يتقدمه
أحد).
وقال محمد بن أبي حاتم : سمعت سليم بن مجاهد يقول : (كنت عند محمد بن سلام البيكندي فقال لي: لو جئت قبل لرأيت
صبيا يحفظ سبعين ألف حديث. قال: فخرجت في طلبه فلقيته ، فقلت: أنت الذي تقول : أنا
أحفظ سبعين ألف حديث؟
فقال: نعم وأكثر، ولا أجيئك بحديث عن الصحابة أو التابعين إلا عرفت مولد
أكثرهم ووفاتهم ومساكنهم.
ولست أروي حديثا من حديث الصحابة أو التابعين إلا ولي في ذلك أصل أحفظه
حفظا من كتاب الله أو سنة رسول الله "صلى الله عليه وسلم").
ومن ذلك الحادثة المشهورة التي يرويها ابن عدي فيقول :
(سمعت عدة مشايخ يحكون أن البخاري قدم
بغداد ، فاجتمع أصحاب الحديث ، فعمدوا إلى مائة حديث فقلبوا متونها وأسانيدها ،
وجعلوا متن هذا لإسناد هذا ، وإسناد هذا لمتن هذا " ودفعوا إلى كل واحد عشرة أحاديث
ليلقوها على البخاري في المجلس ، فاجتمع الناس ، وانتدب أحدهم ، فقام وسأله عن
حديث . فقال : ألا أعرفه . فسأله عن آخر. فقال: لا أعرفه. حتى فرغ من العشرة. وفعل مثل ذلك مع من بقي من المشايخ ، لا يزيدهم على قوله : لا
أعرفه.
حتى إذا فرغوا ، التفت إلى الأول فقال: أما حديثك الأول فإسناده كذا
وكذا ، والثاني كذا وكذا ، والثالث إلى آخر العشرة ، فردّ كل متن إلى إسناده . وفعل
بالثاني مثل ذلك إلى أن فرغ.. فأقر له الناس بالحفظ والتقدم).
اختلاف درجات الحديث باختلاف مراتب الرواة:
وبهذا الاختلاف في درجات الرواة ، وقوة
الأسانيد ، اختلفت مراتب الحديث ، وقوة الاحتجاج بها، ووضع لكل منها اسم ووصف يكشف
عن درجته.
فالصحيح ، والحسن ، والضعيف ، وما إلى ذلك من أوصاف وألقاب للأحاديث ،
إنما مرده وأصله هذا الاختلاف في طبقات الرواة.
ونرجو أن نوفق في الكلمة التالية إلى
التعرض لهذه الناحية بالذات حتى نضع بين يدي القراء الكرام من الذين لم يتصلوا بهذه
الدراسات خلاصة موجزة واضحة لترجمة هذه الاصطلاحات ليسهل عليهم الاتصال بهذه الكتب
والفنون إذا وجدوا الوقت والرغبة.
[b]الحديـث والخبـر
والأثـــر[/b]
تدور هذه الألفاظ الثلاثة على ألسنة المحدثين ، والمشتغلين بهذا الفن ،
والمتصلين به .
ـ ومنهم من يعتبرها بمعنى واحد : وأنها جميعا ما أضيف إلى النبي "صلى
الله عليه وسلم" قولا أو فعلا أو تقريرا أو صفة.
ـ وقيل: الحديث: ما جاء عن النبي "صلى الله عليه وسلم" خاصة , والخبر:
ما جاء عن غيره , والأثر: ما روي عن صحابي أو تابعي.
ـ وقيل : بين الحديث والخبر عموم وخصوص مطلق .. فكل حديث خبر ، وليس كل
خبر حديث.
ولعل خير ما يقال في هذا الشأن: إن الحديث إذا أطلق هكذا انصرف إلى ما
أثر عن رسول الله "صلى الله عليه وسلم" خاصة ، وأن الخبر والأثر ينصرفان إلى هذا
المعنى بالقرينة المميزة مع صحة إطلاقها على غير الحديث من الأخبار والمرويات عن
الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم.
ومعلوم أن السنة هي فعل النبي "صلى الله عليه وسلم" أو قوله أو
إقراره.
الحديث
القدسي:
أطال أهل الفن القول في تعريف الحديث القدسي ، والفرق بينه وبين القران
والحديث النبوي , وخلاصة ما ذكروه في ذلك ، وأولاه بالصواب إن شاء الله:
أن الحديث القدسي إلهام من الله تبارك وتعالى لنبيه في اليقظة أو في
النوم صورا من المعاني والمقاصد ، يشعر النبي"صلى الله عليه وسلم" أن الله يأمره
بتصويرها لعباده ، فيصورها لهم بعبارة من لفظه هو "صلى الله عليه وسلم" على أنه
يرويها عن ربه عز وجل.
ومثاله: حديث أبي ذر الغفاري المطول الذي رواه النووي في أربعينه ، وهو
الرابع والعشرون منها:
(يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي ، وجعلته
محرما بينكم ، فلا تظالموا) الحديث.
وهو بهذا التعريف غير معجز ، ولم يوح به إلى النبي "صلى الله عليه وسلم"
بواسطة جبريل عليه السلام ، وليست ألفاظه من عند الله بداهة.
أما القرآن الكريم: فترتسم معانيه وألفاظه في نفس رسول الله "صلى الله عليه وسلم" بإلقاء
الملك ، وينتهي الوحي وقد وعى النبي "صلى الله عليه وسلم" ما ألقي إليه بلفظه
ومعناه ، ويبلغه الناس. فيكون معجزا ، لأن لفظه وتركيبه من عند الله .
وأما الحديث النبوي: فهو تعبير عن الحقائق والمعاني والأفكار التي تفيض بها نفس النبي "صلى
الله عليه وسلم" بلفظه هو عليه الصلاة والسلام .. وهو صدق وحق لأنه "صلى الله عليه
وسلم" لا ينطق عن الهوى أبدا.
قالوا: ورواية الحديث القدسي صيغتان:
إحداها: أن يقول: قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم" فيما يرويه عن ربه
, وهى عبارة السلف.
وثانيتها: أن يقول: قال الله تعالى فيما رواه عنه رسول الله "صلى الله
عليه وسلم".. والمعنى واحد.
ولا شك أن الأولى أفضل لأنها لا توهم
التشبيه بالقران الكريم.
بين المتن
والإسناد:
عرفنا في الفصل السابق كيف أن أئمة هذا الفن - جزاهم الله خيرا - بذلوا
منتهى الجهد في تحري أحوال الرواة وشئونهم ، وأن هذا كان مدار ترجيحهم لصدق الحديث
وقوته أو ضعفه.
سؤال
ويقول بعض الباحثين: (إنه كان يجب أن تبذل العناية كذلك لتمحيص
المتن ، والحكم على قوة الأحاديث وضعفها بما يسفر عنه التمحيص. فقد يأتي بعض المتون
وفيه مالا يتفق مع نتائج البحث العلمي , ففي الوقت الذي تصرف فيه الهمة إلى الكشف
عن أحوال الرجال ، وتحري شئون الرواة ، يجب كذلك أن نعتني بتطبيق متن الحديث على
حقائق البحث العلمي ، والحكم بعد ذلك على الحديث بالميزانين معا لا بميزان
واحد).
الجواب
وهذا قول له بعض المبررات ، وفيه كثير من الوجاهة . ويجب أن يكون ذلك من
عمل هذا الجيل الممحص النقاد الذي ارتقت فيه وسائل النقد العلمي إلى حد
كبير.
ولكن لا يجب أن تفوتنا مع ذلك هذه الملاحظات:
1 - إن اتهام السلف رضوان الله عليهم بإهمال النظر في المتون جملة غير
صحيح ، فكثيرا ما كانوا يعنون بهذه النظرة ، ويردون بعض المرويات لهذا السبب ،
ويتخذون من عدم انطباق المتن على قواعد الشرع الجلية دليلا على ضعف إسناده ، وعدم
نسبته إلى رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ، ووهم راويه , كما رد ابن عباس حديث أبى
هريرة رضى الله عنه: (من حمل جنازة
فليتوضأ).
وعلل هذا الرد بقوله : (لا يلزمنا الوضوء في حمل عيدان يابسة) , فروح النظر
في المتون ، والاستدلال بهاعلى درجة الحديث كانت موجودة
إذن.
2 - إن هذا الميزان ميزان اعتباري بحسب العقول والعصور كذلك ، فما نعده
نحن اليوم حديث خرافة ، كان يعتبر في بعض العصور الماضية حقيقة من حقائق العلوم
والمعارف الرسمية حينذاك.
والشواهد على هذا كثيرة.
وما نعتبره نحن اليوم حقيقة علمية مقررة ، لو ذكر لمن سبقونا لاعتبروا
قائله مجنونا ، ولحكموا عليه بالإعدام . وقد فعلوا , وتلك طبيعة التطور العلمي.
يوما كنا لنكلف سلفنا فوق ما يطيقون ، وجزاهم الله أفضل الجزاء بما
جاهدوا.
أما الأخذ بميزان تمحيص الإسناد ،
ومعرفة حال الرواة ، والحكم على درجة الحديث بهذا الاعتبار ، فهو أدق الموازين
وأضبطها , لأنه يعتمد على أمور حسية واقعية ، لا يختلف معها النقد الصحيح إلا إذا
تدخلت الغايات والأهواء . ومن حسن الحظ أنها لم تتدخل إلا بعد أن تناولت هذا
الميزان أطهر النفوس ، وأنقى القلوب ، وأعف الأيدي ، فنفت عنه تحريف الغالين ،
وتأويل المبطلين , والحمد لله رب العالمين.
3 - ولهذا كان ما عرف من الأحاديث التي حكم عليها أهل هذا الفن بالصحة
مخالف لبعض مقررات العلوم قليلا جدا ، نادرا كل الندرة ، قد أحصى وعرف ، فلم يتعد
العشرات إلى المئات إن لم يكن الآحاد , وكثير منها يمكن التوفيق بينه وبين هذه
المقررات بضرب مقبول ميسور من التأويل ، والباقي يحمل على أنه رواية بالمعنى لم
يدقق فيها الراوي , و (قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ
تَسْتَفْتِيَانِ) (يوسف:41).
والإسناد[/b]
ما الإسناد؟ .. وما المتن؟
تقرأ الحديث الشريف فيطالعك أو ما يطالعك "السند" وهو:
سلسلة الرواة الذين نقل عنهم هذا الحديث من لدن رسول الله إلى أن انتهى إلى أحد
الحفاظ المشهورين كمالك أو البخاري أو مسلم رضي الله
عنهم.
والإسناد : رفع الحديث إلى
قائله.
وقال ابن جماعة : المحدثون يستعملون السند والإسناد لشيء
واحد .
وأما المتن : فهو ألفاظ الحديث نفسها
.
ومعرفة السند هي الأساس عند المحدثين في الحكم على درجة
الحديث إذ إن عماد الصحة أو الضعف عندهم درجة الرازي من الصدق ، ودرجة روايته من
الوضوح والثقة .
ولهذا كانت عنايتهم بالأسانيد عظيمة ، نشأ عنها علم مصطلح
الحديث بلواحقه من علم الرجال والأنساب والكنى والأسماء والجرح والتعديل
.
الإسناد من خصائص الأمة
الإسلامية:
ولم يؤثر عن أمة من الأمم العناية برواة أخبارها وكتبها ،
ومأثورات أنبيائها كما عرف ذلك عن هذه الأمة الإسلامية التي عنيت بهذه الناحية أتم
العناية ، حتى إن اهتمامها بالأسانيد والرواة لم يقف عند حد العلوم الشرعية ، بل
تعداها إلى العلوم الأدبية والأخبار التاريخية وغيرها ، وإن كان في الحديث النبوي
وما إليه أدق وأوضح .
قال أبوعلي الجياني : (خص
الله تعالى هذه الأمة بثلاثة أشياء لم يعطها من قبلها : الإسناد ، والأنساب ،
والإعراب).
وقال ابن حزم :
(نقل الثقة عن الثقة يبلغ
به النبي "صلى الله عليه وسلم" مع الاتصال خص الله به المسلمين دون سائر الملل ،
وأما مع الإرسال والإعضال فيوجد في كثير من اليهود ، ولكن لا يقربون فيه من موسى
قربنا من محمد "صلى الله عليه وسلم" ، بل يقفون بحيث يكون بينهم وبين موسى أكثر من
ثلاثين عصرا .. ولا يمكن أن يبلغوا إلى صاحب نبي ولا إلى تابع
له).
وقد أثر عن السلف في الحث على العناية بالإسناد أقوال
كثيرة :
قال ابن المبارك. : (الإسناد من الدين ، لولا الإسناد لقال من شاء ما
يشاء).
وقال سفيان بن عيينة : (حدّث الزهري يوما بحديث فقلت : هاته بلا إسناد ، فقال
الزهري : أترقى السطح بلا سلم ؟).
وقال الثوري : (الإسناد
سلاح المؤمن).
وقال أحمد بن حنبل : (طلب
الإسناد العالي سنة عن السلف ؟ لأن أصحاب عبد الله كانوا يرحلون من الكوفة إلى
المدينة فيتعلمون من عمر ويسمعون منه).
وقال محمد بن أسلم الطوسي : (قرب الإسناد قرب أو قربة إلى الله
تعالى).
وقال محمد بن سيرين : (إن
هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم) .. وقال: (لم يكونوا يسألون عن الإسناد ، فلما وقعت الفتنة قالوا سموا
لنا رجالكم ، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم ، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ
حديثهم).
وحكى الأوزاعي عن سليمان بن موسى قال: (لقيت طاووسا فقلت: حدثني فلان كيت وكيت قال : إن كان صاحبك
" ...." فخذ عنه) .
أنواع التحمل
ودرجاته:
وكما كانوا يتحرون حال الراوي كانوا يعنون كذلك بالطريقة
التي تلقى بها عن شيخه .
وطرق التلقي تختلف في الأسلوب وفى الرتبة . ومنها
:
1 - السماع من لفظ الشيخ إملاء من حفظه ، أو تحديثا من
كتابه .
2 - قراءة الطالب على الشيخ
.
3 - سماع الطالب على الشيخ بقراءة
غيره.
4 - المناولة مع الإجازة كأن يدفع له الشيخ أصل سماعه ،
أو فرعا مقابلا به ويقول له: أجزت لك روايته عنى .
5 - الإجازة المجردة عن المناولة ، ولها أنواع كثيرة
مفصلة في كتب الفن.
6 - المناولة من غير إجازة بأن يناوله الكتاب مقتصرا على
قوله هذا سماع ولا يقول اروه عني ، ولا أجزت لك
روايته.
قيل: تجوز الرواية بهذه المناولة .. والصحيح عندهم عدم
الجواز .
ومثلها:
7 - الإعلام: كأن يقول: هذا الكتاب من مسموعاتي من غير أن
يأذن له في روايته عنه.
8 - الوصية: كأن يوصى بكتاب عند سفره أو موته .. والأرجح
عدم جواز الرواية به .
9 - الوجادة : كأن يجد حديثا أو كتابا بخط شيخ معروف لا
يرويه الواحد عنه بسماع ولا إجازة فله أن يقول : وجدت أو قرأت بخط فلان.
وفى مسند الإمام أحمد كثير من ذلك من رواية ابنه
عنه.
قال النووي: (وأما بالوجادة
فعن المعظم أنه لا يجوز وقطع البعض بوجوب العمل بها عند حصول الثقة..) قال :
(وهذا هو الصحيح الذي لا يتجه في هذه الأزمان
غيره).
أقدم إجازتين مأثورتين
:
ا - إجازة أبي خيثمة لزكريا بن يحيى
:
جاء في شرح ألفية العراقي نقلا عن الإمام أبي الحسن محمد
بن أبي الحسين بن الوزان قال : (ألفيت بخط أبي بكر أحمد بن أبي خيثمة زهير بن حرب
الحافظ الشهير صاحب يحيى بن معين وصاحب التاريخ ما مثاله: "قد أجزت لأبى زكريا يحيى بن مسلمة أن يروي عنى ما أحب من
كتاب التاريخ الذي سمعه مني أبو محمد القاسم بن الأصبح ومحمد بن عبد الأعلى كما
سمعاه منى ، وأذنت له في ذلك ولمن أحب من أصحابه ، فإن أحب أن تكون الإجازة لأحد
بعد هذا فأنا أجزت له ذلك بكتابي هذا" وكتب أحمد بن خيثمة بيده في شوال سنة
ست وسبعين ومائتين).
2
- إجازة حفيد بن شيبة للخلال
وكذلك أجاز حفيد يعقوب بن شيبة وهذه نسختها فيما حكاه
الخطيب: يقول محمد بن أحمد بن يعقوب بن شيبة : (قد
أجزت لعمر بن أحمد الخلال وابنه عبد الرحمن بن عمر ولختنه على بن الحسن جميع ما
فاته من حديثي مما لم يدرك سماعه من المسند وغيره ، وقد أجزت ذلك لمن أحب عمر ،
فليرووه عنى إن شاءوا. وكتبت لهم ذلك بخطى في صفر سنة اثنتين وثلاثين
وثلاثمائة).
دقة التحري وسعة معرفة أئمة الفن بأحوال
الرواة:
وإن ما أثر عن أئمة رواية الحديث في دقة تحريهم عن أقوال
الرواة وسعة معرفتهم بكل ما يتصل بهم من شئون خاصة أو عامة لمما يقضي منه
العجب.
ولقد كانوا يتحرجون من الرواية حتى عن الثقات لتوهم
الشبهة في بعض تصرفاتهم المتصلة بالرواية.
ولا تثبت صفة التقدم والحفظ لأحد من رجال الحديث حتى يكون
قد حفظ متن الحديث وألفاظه وسنده حفظا تاما ، ثم ألم بمعرفة رجاله وأحوالهم فردا
فردا ، ثم أضاف إلى ذلك العلم بطرق روايته المختلفة .
وهذا الإمام مسلم بن الحجاج يحدثنا في مقدمة صحيحه عن شيء
من هذا فيقول شارحا منهاجه في الرواية :
(ثم إنا إن شاء الله
مبتدئون في تخرج ما سألت وتأليفه على شريطة سوف أذكرها لك وهو
:
أنا نعمد إلى جملة ما أسند من الأخبار
عن رسول الله "صلىالله عليه وسلم", فنقسمها على ثلاثة أقسام وثلاث طبقات من الناس ,
فأما القسم الأول : فإنا نتوخى أن نقدم الأخبار التي هي أسلم من العيوب من غيرها ،
وأنقى من أن يكون ناقلوها أهل استقامة في الحديث وإتقان لما نقلوا
.
فإذا نحن تقصينا أخبار هذا
الصنف من الناس أتبعناها أخبارا يقع في أسانيدها بعض من ليس بالموصوف بالحفظ
والإتقان كالصنف المقدم قبلهم ، على أنهم وإن كانوا فيما وصفنا دونهم فإن اسم الستر
والصدق وتعاطى العلم يشملهم: كعطاء بن السائب ، ويزيد بن أبي زياد ، وليث بن أبي
سليم وأضرابهم من حمال الآثار ونقال الأخبار. فهم وإن كانوا بما وصفنا من العلم
والستر عند أهل العلم معروفين ، فغيرهم من أقرانهم ممن عندهم ما ذكرنا من الإتقان
والاستقامة في الرواية يفضلونهم في الحال والمرتبة ، لأن هذا عند أهل العلم درجة
رفيعة ، وخصلة سنيه , ألا ترى أنك إذا وازنت هؤلاء الثلاثة الذين سميناهم : عطاء ،
ويزيد ، وليثا بمنصور بن المعتمر ، وسليمان الأعمش ، وإسماعيل بن أبى خالد في إتقان
الحديث والاستقامة فيه وجدتهم مباينين لهم لا يدانونهم ، لا شك عند أهل العلم
بالحديث في ذلك للذي استفاض عندهم من صحة حفظ
منصور والأعمش وإسماعيل وإتقانهم لحديثهم ، وأنهم لم يعرفوا مثل ذلك من عطاء ويزيد
وليث.
وفي مثل مجرى هؤلاء إذا وازنت بين
الأقران كابن عون ، وأيوب السختياني مع عوف بن أبي جميلة وأشعث الحراني وهما صاحبا
الحسن وابن سيرين ، كما أن ابن عون وأيوب صاحباهما إلا أن البون بينهما وبين هذين
بعيد في كمال الفضل , وصحة النقل , وإن كان عوف وأشعث غير مدفوعين عن صدق وأمانة
عند أهل العلم..
فعلى نحو ما ذكرنا من الوجوه نؤلف ما سألت من الأخبار عن رسول الله "صلى
الله عليه سلم".
فأما ما كان منها عن قوم هم عند أهل الحديث متهمون أو عند الأكثر منهم ،
فلسنا نتشاغل بتخريج حديثهم كعبد الله بن مسور أبي جعفر المدائني ، وعمرو بن خالد ،
وعبد القدوس الشامي ، ومحمد بن سعيد المصلوب ، وغياث بن إبراهيم ، وسليمان بن عمرو
أبي داود النخعي ، وأشباههم ممن اتهم بوضع الأحاديث ، وتوليد الأخبار , وكذلك من
الغالب على حديثه المنكر أو الغلط ، أمسكنا أيضا عن حديثهم).
ـ ومن أمثلة التورع في الرواية حتى عن الثقات ما رواه مسلم بعد ذلك عن
أبي الزناد عن أبيه قال: (أدركت بالمدينة مائة كلهم
مأمون ما يؤخذ عنهم الحديث ، يقال : ليس من أهله).
وإذا رجعت إلى كتب الرجال والعلل والجرح
والتعديل أدهشك ما ترى من ذلك .
جودة الحفظ وسرعته ودقته وكثرته
:
ولقد اشتهر الكثير من أئمة الحديث بسرعة
الحفظ وجودته ، ودقته وكثرته حتى كانوا أعاجيب الدنيا في هذه
المعاني.
ومنهم أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري الذي روي عنة في ذلك
الغرائب المدهشة منذ كان غلاما حتى لقي ربه.
ولقد حدث عن نفسه فيما رواه الفريري
:
(قال: ألهمت حفظ الحديث وأنا في الكتاب".
قلت : وكم أتى عليك إذ ذاك؟.
فقال : عشر سنين أو أقل , ثم خرجت من الكتاب فجعلت أختلف إلى الداخلي
وغيره فقال يوما فيما كان يقرأ للناس: سفيان عن أبى الزبير عن إبراهيم . فقلت: إن
أبا الزبير لم يرو عن إبراهيم.. فانتهرني .
فقلت له: ارجع إلى الأصل إن كان عندك .
فدخل فنظر فيه ثم رجع فقال: كيف هو يا غلام ؟
فقلت : هو الزبير وهو ابن عدى عن إبراهيم.
فأخذ القلم وأصلح كتابه وقال لي: صدقت.
فقال له إنسان : ابن كم حين رددت عليه؟
فقال : ابن إحدى عشرة سنة.
قال : فلما طعنت في ست عشرة سنة حفظت كتب ابن المبارك ووكيع . وعرفت
كلام هؤلاء ـ يعنى أصحاب الرأي).
وقال حامد بن إسماعيل وآخر: (كان البخاري
يختلف معنا إلى السماع وهو غلام ، فلا يكتب ، حتى أتى على ذلك أيام فكنا نقول له.
فقال : إنكما قد أكثرتما علي فاعرضا علي ما كتبتما ، فأخرجنا إليه ما كان عندنا ،
فزاد على خمسة عشرة ألف حديث ، فقرأها كلها عن ظهر قلب حتى جعلنا نحكم كتبنا من
حفظه. ثم قال : أترون أني أختلف هدرا وأضيع أيامي؟ فعرفنا أنه لا يتقدمه
أحد).
وقال محمد بن أبي حاتم : سمعت سليم بن مجاهد يقول : (كنت عند محمد بن سلام البيكندي فقال لي: لو جئت قبل لرأيت
صبيا يحفظ سبعين ألف حديث. قال: فخرجت في طلبه فلقيته ، فقلت: أنت الذي تقول : أنا
أحفظ سبعين ألف حديث؟
فقال: نعم وأكثر، ولا أجيئك بحديث عن الصحابة أو التابعين إلا عرفت مولد
أكثرهم ووفاتهم ومساكنهم.
ولست أروي حديثا من حديث الصحابة أو التابعين إلا ولي في ذلك أصل أحفظه
حفظا من كتاب الله أو سنة رسول الله "صلى الله عليه وسلم").
ومن ذلك الحادثة المشهورة التي يرويها ابن عدي فيقول :
(سمعت عدة مشايخ يحكون أن البخاري قدم
بغداد ، فاجتمع أصحاب الحديث ، فعمدوا إلى مائة حديث فقلبوا متونها وأسانيدها ،
وجعلوا متن هذا لإسناد هذا ، وإسناد هذا لمتن هذا " ودفعوا إلى كل واحد عشرة أحاديث
ليلقوها على البخاري في المجلس ، فاجتمع الناس ، وانتدب أحدهم ، فقام وسأله عن
حديث . فقال : ألا أعرفه . فسأله عن آخر. فقال: لا أعرفه. حتى فرغ من العشرة. وفعل مثل ذلك مع من بقي من المشايخ ، لا يزيدهم على قوله : لا
أعرفه.
حتى إذا فرغوا ، التفت إلى الأول فقال: أما حديثك الأول فإسناده كذا
وكذا ، والثاني كذا وكذا ، والثالث إلى آخر العشرة ، فردّ كل متن إلى إسناده . وفعل
بالثاني مثل ذلك إلى أن فرغ.. فأقر له الناس بالحفظ والتقدم).
اختلاف درجات الحديث باختلاف مراتب الرواة:
وبهذا الاختلاف في درجات الرواة ، وقوة
الأسانيد ، اختلفت مراتب الحديث ، وقوة الاحتجاج بها، ووضع لكل منها اسم ووصف يكشف
عن درجته.
فالصحيح ، والحسن ، والضعيف ، وما إلى ذلك من أوصاف وألقاب للأحاديث ،
إنما مرده وأصله هذا الاختلاف في طبقات الرواة.
ونرجو أن نوفق في الكلمة التالية إلى
التعرض لهذه الناحية بالذات حتى نضع بين يدي القراء الكرام من الذين لم يتصلوا بهذه
الدراسات خلاصة موجزة واضحة لترجمة هذه الاصطلاحات ليسهل عليهم الاتصال بهذه الكتب
والفنون إذا وجدوا الوقت والرغبة.
[b]الحديـث والخبـر
والأثـــر[/b]
تدور هذه الألفاظ الثلاثة على ألسنة المحدثين ، والمشتغلين بهذا الفن ،
والمتصلين به .
ـ ومنهم من يعتبرها بمعنى واحد : وأنها جميعا ما أضيف إلى النبي "صلى
الله عليه وسلم" قولا أو فعلا أو تقريرا أو صفة.
ـ وقيل: الحديث: ما جاء عن النبي "صلى الله عليه وسلم" خاصة , والخبر:
ما جاء عن غيره , والأثر: ما روي عن صحابي أو تابعي.
ـ وقيل : بين الحديث والخبر عموم وخصوص مطلق .. فكل حديث خبر ، وليس كل
خبر حديث.
ولعل خير ما يقال في هذا الشأن: إن الحديث إذا أطلق هكذا انصرف إلى ما
أثر عن رسول الله "صلى الله عليه وسلم" خاصة ، وأن الخبر والأثر ينصرفان إلى هذا
المعنى بالقرينة المميزة مع صحة إطلاقها على غير الحديث من الأخبار والمرويات عن
الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم.
ومعلوم أن السنة هي فعل النبي "صلى الله عليه وسلم" أو قوله أو
إقراره.
الحديث
القدسي:
أطال أهل الفن القول في تعريف الحديث القدسي ، والفرق بينه وبين القران
والحديث النبوي , وخلاصة ما ذكروه في ذلك ، وأولاه بالصواب إن شاء الله:
أن الحديث القدسي إلهام من الله تبارك وتعالى لنبيه في اليقظة أو في
النوم صورا من المعاني والمقاصد ، يشعر النبي"صلى الله عليه وسلم" أن الله يأمره
بتصويرها لعباده ، فيصورها لهم بعبارة من لفظه هو "صلى الله عليه وسلم" على أنه
يرويها عن ربه عز وجل.
ومثاله: حديث أبي ذر الغفاري المطول الذي رواه النووي في أربعينه ، وهو
الرابع والعشرون منها:
(يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي ، وجعلته
محرما بينكم ، فلا تظالموا) الحديث.
وهو بهذا التعريف غير معجز ، ولم يوح به إلى النبي "صلى الله عليه وسلم"
بواسطة جبريل عليه السلام ، وليست ألفاظه من عند الله بداهة.
أما القرآن الكريم: فترتسم معانيه وألفاظه في نفس رسول الله "صلى الله عليه وسلم" بإلقاء
الملك ، وينتهي الوحي وقد وعى النبي "صلى الله عليه وسلم" ما ألقي إليه بلفظه
ومعناه ، ويبلغه الناس. فيكون معجزا ، لأن لفظه وتركيبه من عند الله .
وأما الحديث النبوي: فهو تعبير عن الحقائق والمعاني والأفكار التي تفيض بها نفس النبي "صلى
الله عليه وسلم" بلفظه هو عليه الصلاة والسلام .. وهو صدق وحق لأنه "صلى الله عليه
وسلم" لا ينطق عن الهوى أبدا.
قالوا: ورواية الحديث القدسي صيغتان:
إحداها: أن يقول: قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم" فيما يرويه عن ربه
, وهى عبارة السلف.
وثانيتها: أن يقول: قال الله تعالى فيما رواه عنه رسول الله "صلى الله
عليه وسلم".. والمعنى واحد.
ولا شك أن الأولى أفضل لأنها لا توهم
التشبيه بالقران الكريم.
بين المتن
والإسناد:
عرفنا في الفصل السابق كيف أن أئمة هذا الفن - جزاهم الله خيرا - بذلوا
منتهى الجهد في تحري أحوال الرواة وشئونهم ، وأن هذا كان مدار ترجيحهم لصدق الحديث
وقوته أو ضعفه.
سؤال
ويقول بعض الباحثين: (إنه كان يجب أن تبذل العناية كذلك لتمحيص
المتن ، والحكم على قوة الأحاديث وضعفها بما يسفر عنه التمحيص. فقد يأتي بعض المتون
وفيه مالا يتفق مع نتائج البحث العلمي , ففي الوقت الذي تصرف فيه الهمة إلى الكشف
عن أحوال الرجال ، وتحري شئون الرواة ، يجب كذلك أن نعتني بتطبيق متن الحديث على
حقائق البحث العلمي ، والحكم بعد ذلك على الحديث بالميزانين معا لا بميزان
واحد).
الجواب
وهذا قول له بعض المبررات ، وفيه كثير من الوجاهة . ويجب أن يكون ذلك من
عمل هذا الجيل الممحص النقاد الذي ارتقت فيه وسائل النقد العلمي إلى حد
كبير.
ولكن لا يجب أن تفوتنا مع ذلك هذه الملاحظات:
1 - إن اتهام السلف رضوان الله عليهم بإهمال النظر في المتون جملة غير
صحيح ، فكثيرا ما كانوا يعنون بهذه النظرة ، ويردون بعض المرويات لهذا السبب ،
ويتخذون من عدم انطباق المتن على قواعد الشرع الجلية دليلا على ضعف إسناده ، وعدم
نسبته إلى رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ، ووهم راويه , كما رد ابن عباس حديث أبى
هريرة رضى الله عنه: (من حمل جنازة
فليتوضأ).
وعلل هذا الرد بقوله : (لا يلزمنا الوضوء في حمل عيدان يابسة) , فروح النظر
في المتون ، والاستدلال بهاعلى درجة الحديث كانت موجودة
إذن.
2 - إن هذا الميزان ميزان اعتباري بحسب العقول والعصور كذلك ، فما نعده
نحن اليوم حديث خرافة ، كان يعتبر في بعض العصور الماضية حقيقة من حقائق العلوم
والمعارف الرسمية حينذاك.
والشواهد على هذا كثيرة.
وما نعتبره نحن اليوم حقيقة علمية مقررة ، لو ذكر لمن سبقونا لاعتبروا
قائله مجنونا ، ولحكموا عليه بالإعدام . وقد فعلوا , وتلك طبيعة التطور العلمي.
يوما كنا لنكلف سلفنا فوق ما يطيقون ، وجزاهم الله أفضل الجزاء بما
جاهدوا.
أما الأخذ بميزان تمحيص الإسناد ،
ومعرفة حال الرواة ، والحكم على درجة الحديث بهذا الاعتبار ، فهو أدق الموازين
وأضبطها , لأنه يعتمد على أمور حسية واقعية ، لا يختلف معها النقد الصحيح إلا إذا
تدخلت الغايات والأهواء . ومن حسن الحظ أنها لم تتدخل إلا بعد أن تناولت هذا
الميزان أطهر النفوس ، وأنقى القلوب ، وأعف الأيدي ، فنفت عنه تحريف الغالين ،
وتأويل المبطلين , والحمد لله رب العالمين.
3 - ولهذا كان ما عرف من الأحاديث التي حكم عليها أهل هذا الفن بالصحة
مخالف لبعض مقررات العلوم قليلا جدا ، نادرا كل الندرة ، قد أحصى وعرف ، فلم يتعد
العشرات إلى المئات إن لم يكن الآحاد , وكثير منها يمكن التوفيق بينه وبين هذه
المقررات بضرب مقبول ميسور من التأويل ، والباقي يحمل على أنه رواية بالمعنى لم
يدقق فيها الراوي , و (قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ
تَسْتَفْتِيَانِ) (يوسف:41).
الثلاثاء 26 يونيو 2012, 1:37 am من طرف yasmina
» قصة رجل من أفريقيا
الثلاثاء 26 يونيو 2012, 1:34 am من طرف yasmina
» الاذاعه المدرسيه
الثلاثاء 26 يونيو 2012, 1:32 am من طرف yasmina
» مسابقات ومعلومات للاذكياء .............................فقط ادخلواااااااااااااااااااااااااااااااااااااا
الثلاثاء 26 يونيو 2012, 1:16 am من طرف yasmina
» سبحان الله ..... صور نادرة لعظمة الله...ادخل وشوف
الثلاثاء 26 يونيو 2012, 1:14 am من طرف yasmina
» أسئلة تبحث عن أجوبة..........موضوع غاية في الروعة والعظمة
الثلاثاء 26 يونيو 2012, 1:13 am من طرف yasmina
» شخصيات إسلامية : الائمة الاربعة : الإمام أحمد بن حنبل
الثلاثاء 26 يونيو 2012, 1:11 am من طرف yasmina
» إلى سلة المحذوفات مع التحية
الثلاثاء 26 يونيو 2012, 1:08 am من طرف yasmina
» دورة المدرسه لكرة القدم فين
الثلاثاء 26 يونيو 2012, 1:07 am من طرف yasmina